لن اكون واقعية................!!!!

عذرا يا زمان ... لن أكون واقعية

لطالما قالوا لي...اذا أردت فهم الحياة دون خوض تجاربها المريرة...تعلمي من أولئك الذين خط لهم الزمان في مجلده
سطورا...عاشريهم
و اسأليهم كيف هزموا قسوة الأيام بكل شجاعة...حدثيهم عن أحلامك..فهم
يعرفون أيا منها قد يصيب و سيخبرونك عن ما قد يخيب منها...هم يعرفون..فهم
جربوا و هم كبروا تحت لواء الدنيا و رفعوا راية الانتصار على واقعها و
عاشوا و تعلموا الحكمة في مدرسة الأيام..
فقلت لأحد الحكماء أولئك...انصحني...
قال هات ما عندك...
قلت:أريد الوصول الى حلمي فأخبرني ما السبيل ؟...
فنظر
الي بنظرة كحلتها قسوة الأيام بكحلها الأسود و قال: تعلمي مني
درسا..علمتني اياه سبعين عاما من الخبرة و العمل...كوني واقعية عندما
تحلمين...و لا تبني أحلامك عالية فلا تستطيعين الوصول...بل اتخذي من الحياة
سلما و لعلك ان بلغت عمري يوما...بلغت جزءا من تلك الأحلام
وقع كلماته
بعث في نفسي "واقعية" كما يسميها ..و يأسا كما أحب أن أطلق على تلك الكلمة
المشؤومة...ثم نظرت اليه و قلت...ماذا عن التعامل مع الناس؟
نظرته هذه
المرة لم أستطع تمييزها..لأنه أرخى بصره الى الأرض..و قال بصوته الذي مزج
ببحة الزمن الماضي...لكل انسان فينا عالم...و لا يمكنك التعامل مع الجميع
بنفس الأسلوب...لكل منا فكر و ماض و أحلام...عليك خوض تجربة اكتشاف متاهة
النفس البشرية ثم التعامل مع كل من أولئك البشر بأسلوب يناسب طبعه و
كلامه...
تناغم صدى كلماته في أذني مع صوت أحلامي و آمالي...فلم أعرف
أيهما علا على الآخر...و اقتطعت تلك الأصوات قائلة: ماذا عن المشاعر
البشرية ؟ حدثني عن الحب و الصداقة و الحزن و السعادة؟
ظهرت ابتسماته
عند زاوية فمه...فأظهرت تجاعيدا كانت مختفية...و أظهرت صبا في نفس
الوقت...-لم أكن أعرف أن للابتسامة أثر في جعل الانسان يبدو أصغر و أحلى
الى هذه الدرجة...
ثم قال:المشاعر سفينة بلا مرسى...تلطمها يد الأمواج
في بحر قلوبنا ... الحب ..أقوى الارتطامات و أعنفها...و الصداقة...أرقها و
أدومها...و الحزن...هو ما تبرع تلك اليد في لطمه كل يوم على ظهر سفينة
حياتنا...أما السعادة...فهي تلك اللحظات التي تهدأ فيها الرياح و الأمواج
في ليالي المد و الجزر...
لم أتحمل وقع كلماته...و تعقيد حروفه...و
تشبيهاته التي أغرقت أحلامي و آمالي ..فشكرته و رد علي مطرقا ... و
التجاعيد على وجهه لم تزده الا واقعية و أسى...
خرجت من عنده و توقفت
بحديقة في الطريق...نغمات العصافير و صراخ الأطفال أعاد في نفسي شيئا من ما
خسرت بفعل كلمات ذلك الرجل "الحكيم كما يزعمون"...
رأيت عالما
آخر...غير عالم الحكماء ذاك...غير عالم التعبيرات المزينة بالحروف المثقلة
بالتشبيهات و التعقيدات...رأيت عالما جديدا ...عالما لم تلوثه يد الزمان
بعد...لم تمسه قسوة الواقع و مرارة الأحلام المحطمة...و الأحزان ...عالم
مازال على فطرته النقية البيضاء...هناك عند الأرجوحة كان...طفل سبحان
الخالق...بسمته تحكي قصص أمل..و لمعة عينيه السوداوتين تبني طرقا لتحقيق
الأحلام...رأيته هناك...يقفز عن الأرجوحة تارة و يعود ليركب عليها...يقع و
يقف...يقع و يقف...فدفعني فضولي لمعرفة ما يفعله ذاك الطفل...سألته...ماذا
تفعل؟ فقال لي مبتسما و العرق يتصبب من جبهته العريضة الطاهرة...أنا طائرة
... تعلو و تهبط في المطار...أوتركبين معي؟؟
لا أدري لم حركت كلماته
الدمع في عيني...علي اشتقت لطفولتي أو تذكرت حلمي الذي تعمل الأيام على
تحطيمه...لاحظ الطفل الدمع في عيني...فمسح دمعتي بيده و قال: لا تحزني
سأركبك معي ان أردت...
ابتسمت له ... و أخبرته أني سأفعل: جلست على
الأرجوحة ... رغم أني نسيت كيف التأرجح...و ما أن علت الأرجوحة عن الأرض
حتى شعرت أن كل آلامي طارت مع الهواء.و شعرت للحظة أني أحلق في سماء الأمل
ثانية...
أتت مجموعة من الأطفال بعدها...كل له لغته و شكله و طريقة
ملبسه...كلهم جلسوا معا على تربة الحديقة و بدؤوا يبنون بها جبالا...تنحيت
عن الأرجوحة و تركت المكان...و نفسي تفيض شوقا لأيام طفولتي... أكملت المشي
في الحديقة...هنا طفلة تغمر أمها و تضمها و تخبرها كم تحبها و هنا طفل على
حجر أبيه يبكي..و هناك بين الأشجار طفل يقفز خلف العصفور...خرجت من المكان
كلي أمل و تفاؤل...خرجت منه و قد تعلمت ما عجز ذاك الذي عاش في الدنيا
عقودا أن يعلمني اياه...تعلمت أن الأحلام ممكنة اذا استطعت التحليق في سماء
الأمل...و تعلمت أن التعامل مع البشر ليس فنا يتعلم,بل انسانية و بساطة و
قلب كبير...تعلمت أن المشاعر تصنع منا بشرا...و الحب و السعادة و الحزن
أحلى ما في الحياة...تعلمت أن الحياة لا تتعلم من أولئك "الواقعيين" بل من
أولئك الذين ما زالت نفسياتهم طاهرة كما السماء...تعلمت من الطفولة أن
الانسان يغدو معقدا بليدا اذا ما تناسى ذلك الطفل الذي ينبض في بسمته...فان
أبقيت الطفل النابض في روحي حيا... سأبقى انسانة..أما اذا ما سمحت لكف
الزمان برسم اليأس مع تجاعيدي...فلن أكون الا.. واقعية